Saturday 11 June 2011

مقالان عن فضيحة "جمعة العشائر" السورية

فيما يلي مقالان من "الحياة" حول مسخرة "جمعة عشائر" الانتفاضة السورية ، أولهما لحازم صاغية ، وثانيهما لمصطفى زين
جمعة عشائر؟
حازم صاغيّة

دفعَتْنا الحداثةُ، التي مسَّتْنا مسّاً، إلى أن نستنكر «العشائرية»، فإذا قيل لواحدنا: «أنت عشائري»، ثم في طور لاحق: «أنت طائفي»، اعتبر السامع الموصوف أنه مذموم.
وكان الأشد إحساساً بالإهانة فينا أولئك الذين حافظوا على العشائري والطائفي فيهم، غير أنهم بالغوا في كبته «حداثياً». وهي عملية ذهبت فيها بعيداً الأحزاب «التقدمية»، لا سيما حزب البعث. فمنذ اندماج «حزب البعث العربي» و»الحزب العربي الاشتراكي» أوائل الخمسينات، وتحولهما «حزب البعث العربي الاشتراكي»، غادرَ صفوف الحزب أحد مؤسسيه، جلال السيد، ملاك الأراضي في دير الزور الذي اعتبر أن تلك «الاشتراكية» المستجدة والغربية إساءة إلى العشيرة العربية وروحها.
لكن سياسة البعث بعد وصوله إلى السلطتين في العراق وفي سورية، كانت انتقائية مع العشائر. فحيث كانت الأخيرة تنتصب عائقاً في وجه السلطة المركزية وامتدادها، كانت تُعامَل كراسب رجعي ومتخلف يقف في طريق التحديث والاشتراكية. إلا أنها حيث كانت تُذعن لتلك السلطة، فيكتفي شيوخها بفتات عوائدها، كانت تُقدم تعبيراً عن «الأصالة» العربية العابرة للتاريخ. والبعث، بتكوينه الإيديولوجي البالغ الانتقائية، يتسع للشيئين معاً.
ولم يُعدم الأمر بعض «المنطق»: فقد تلازم الشق «التقدمي» و»الحديث» مع فترات قوة السلطة وميلها إلى اختراق المجتمع عميقاً وإلى إعادة صنعه من الداخل، فيما تلازم استخدام «الأصالة»، وهي مفهوم بعثي راسخ على رغم خلفيته الدموية – العنصرية، مع فترات انكفاء السلطة تحت وطأة العقوبات والحصارات الخارجية. في هذه الحالة، كان إنعاش العشائر وتسليمها أقساطاً من القوة السياسية والاقتصادية يذهبان بعيداً.
قصارى القول إن عشرات السنين البعثية لم تُضعف البنية العشائرية فعلياً. وهذا ما تبدى في أوضح أشكاله في العراق كما خلفته السنوات المديدة لحكم صدام حسين. ذاك أنه مع سقوط الطاغية التكريتي، بدا كما لو أن البلد لا يملك إلا طوائفه وعشائره. فحين أريدَ الحد من جرائم الطائفية، ممثلةً أساساً بـ»القاعدة»، لم يكن هناك إلا العشائر، ممثلةً بـ»الصحوات»، تُستحضَر في مواجهتها. ولا بأس بالإشارة إلى خدمة أخرى أسداها التواصل الاجتماعي وأدواته للعشائر، تماماً كما أسدى عديد الخدمات للتقدم وتغيير الواقع. فتلك التي كانت قد تبعثرت في مناطق ومدن، وأحياناً في بلدان تفصل الحدود بينها، وجدت هي أيضاً في «الفايسبوك» وسواه ما يجمع بين أطراف كان يغريها التحول إلى العائلة النواة.
وإذ تسمي الانتفاضة السورية يوم جمعتها الأخير بـ»جمعة العشائر»، تكون تقدم تنازلاً كبيراً لذاك الحلف الذي جمع رواسب تاريخنا إلى أفعال السلطات «التقدمية» و»الحديثة» وإلى العوارض الجانبية للتطورات التقنية. يزيد في بشاعة تلك التسميات، ويظهر سوء دلالاتها، تعثر الإقلاع في المدينتين السوريتين الكبيرتين، العاصمة دمشق و»عاصمة الشمال» حلب، وكون مدن الشريط الغربي التي انتفضت ليست منبتة الصلة بـ»العشائر» المحيطة بها والمقيمة فيها.
وقد يقال، بتسليم كثيراً ما سمعناه في حقب سابقة وعلى أيدي حركات وأحزاب آفلة، إن هذا هو تاريخنا وواقعنا، وإننا نحن هكذا!. وربما بدا ذلك على قدر بعيد من الصحة. بيد أن صحته لا تحول دون ضرورة التنبه إلى خطره على الانتفاضة وإلى تحجيمه طموحات الطامحين في أن يكون هناك مستقبل آخر.
أما البطولة والبسالة، وهما بالتأكيد بعض ما تملكه الانتفاضة وما تعبر عنه، فلا تكفيان للتغلب على مشكلات من هذا الصنف. والفارس المغوار الذي لا يلين، وهو بطل العشيرة الميثولوجي، لم يستطع كبح الضمور الذي تعرضت وتتعرض إليه العشيرة، إن لم يكن في بلداننا ففي بلدان أخرى أشد وعداً.

«جمعة العشائر» أم عصر العشائر؟
مصطفى زين

في الأدبيات العربية القديمة أن مهاجرين أو مهجرين إلى أوروبا، أفادوا من علومها ونهضتها الثقافية والسياسية، ووقفوا في مواجهة الاستبداد العثماني، وسعوا إلى إقامة دول- أمم على النمط الغربي. وفي الأدبيات الحديثة العائدة إلى بدايات، ومنتصف، القرن الماضي سير مهاجرين تأثروا بالنظريات القومية الأوروبية وعادوا إلى بلدانهم ليؤسسوا أحزاباً وينشروا الفكر القومي المضاد للطائفية والعشائرية والقبلية والمناطقية، ساعين إلى علمانية تعتمد المواطنة أساساً. وفي هذه الأدبيات أيضاً أن عائدين أسسوا أحزاباً شيوعية شعارها الأساس «يا عمال العالم اتحدوا»، أي أنهم وصلوا إلى حدود إلغاء الانتماء القومي، فضلاً عن الإثني والعشائري والطائفي والديني.
العائدون من أوروبا في ذلك الوقت والمتأثرون بأفكارها وفلسفاتها، قادوا مقاومة الاحتلال، ومعارضة الأنظمة الناشئة في كنفه وبإرادته. وكانوا النخبة الفاعلة في المجتمع من أجل إلغاء كل أشكال التفرقة.
هذا في الأمس، في مرحلة تأسيس الدول الوطنية. أما اليوم فنجد «النخبة» المهاجرة إلى أوروبا وأميركا تحاول نشر فكرها الديني حيث هي. وتشكل قوقعات معزولة على هامش المجتمع الذي تقيم فيه، متمسكة بعاداتها وتقاليدها، تتفاعل في ما بينها، معادية أي نوع من التفاعل بين الثقافات والحضارات. أما من يعود منها إلى أرضه فنجده أشد تمسكاً بالقيم القديمة من المقيمين. يلوّن أحاديثه أو كتاباته بشعارات حقوق الإنسان والجماعات. ويستعير من التاريخ ما يتناسب مع توجهه، مستخدماً بعض الجمل الأجنبية ليبدو أكثر تقدماً، لبعض هذه الجمل مقابل بالعربية أكثر دقة وتعبيراً. وفوق كل ذلك يرفع شعار «الكون قرية صغيرة»، متخذاً من التكنولوجيا والإعلام مثالاً على ذلك، غير آبه بمضمون ما يبثه من حقد ودعوة إلى الفرقة عبر هذا الإعلام.
باختصار كان المثقفون المهاجرون السابقون يفيدون من الفكر الأوروبي المتقدم، محاولين نقله إلى بلدانهم. أما اليوم فنجدهم يعودون لإعادة الجماعات إلى عصر ما قبل الدولة. جماعات بطريركية قائمة على العرق والدين والعشائرية. أليس هذا ما نلاحظه في توجهات المعارضة السورية في الخارج؟ مؤتمر أنطاليا كان نموذجاً حياً لهذه التوجهات. اختيرت قيادته على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية. وبدأت نشاطها في الدعوة إلى التظاهر في «جمعة العشائر».
لسنا في حاجة إلى القول إن الأنظمة القائمة في العالم العربي مسؤولة أيضاً عن حال التشرذم ونشر التفرقة وممارسة الاستبداد طوال الخمسين سنة الماضية. لكن كنا ننتظر من «النخبة» المقيمة في أوروبا، أو العائدة إلى أوطانها أن تكون أكثر تقدماً وانفتاحاً من هذه الأنظمة، لا أن تعود لإحياء تجمعات ما قبل الدولة، وتقود حملة التحريض الطائفي والديني. كنا ننتظر منها أن تعود لتبشر بالحداثة، كي لا نقول ما بعد الحداثة، وبالديموقراطية التي عاشتها ومارستها في الغرب، لا أن تعود لتقود تكريس التخلف المقيم الذي حافظت عليه وغذته الأنظمة.
نحن نعيش عصر العشائر لا «جمعة العشائر».