Thursday 5 May 2011

هكذا تعيش ساحة العباسيين في دمشق صباحاتها
غسان مسعود ـ دمشق
دمشق | يبلّل الندى نسيم الصباح البارد. يسبق السنونو الحمام إلى الاستيقاظ. أعمدة بشرية في الطرقات. ينزع الصباح أقنعة رجال الاستخبارات: وحدهم في المدينة، أو هو الحلم تحقَّق: المدينة لهم وحدهم. كل بضع خطوات، عمود. لا يفعل شيئاً: لا يلم قمامة أو ينادي على بضاعة ولا يبيع أوراق اليانصيب أو يمزح بعصا أعمى. وحدها هذه الأعمدة في الشارع تملأ الشارع.
لا تكفّ عينا الأمني الأول عن ملاحقة قدمي السائر حتى تطمئنّا إلى أن عيني أمنيّ آخر قد تسلمتهما. ينتظر المغامر بالخروج من منزله ألف سؤال. بينه وبين الأمنيين ألف، وبينه وبين نفسه ألف آخر. ساحة العباسيين ـــــ الساعة السابعة صباح الجمعة ـــــ ملعب استخبارات: يسرح فيها عشرات العناصر، يطل عليها من أسطح البنايات عشرات العناصر ويحتشد في الملعب الرياضي الملاصق للساحة عشرات العناصر ينتظرون الخروج إليها.
منع الشرارة الدرعاوية من التفشي في دمشق أو حلب مهمة أساسية بالنسبة إلى النظام الذي يعتقد أن النأي بالعاصمتين السوريتين عمّا يحصل في المدن الأخرى ضروري لقطع الطريق على المنتفضين. من هنا يقبض الأمن على مختلف مفاصل الحياة في دمشق وحلب: جامعة دمشق، وهي الخزان الطالبيّ الأكبر في سوريا، حصن للنظام، وقد فشلت أكثر من عشرين محاولة لاختراقه خلال عشرين يوماً. يحافظ ثلاثي الأمن والتجار ورجال الدين على تضامنه كاملاً باستثناء بعض الاختراقات لرجال الدين في حي الميدان الدمشقي. أما تجار المدينتين، فحُماة النظام الذي وفر لمدينتهم ازدهاراً اقتصادياً غير مسبوق، وكبارهم شركاؤه في البيزنس. الحركة الحزبية المعارضة لا تزال في هاتين المدينتين غبّ طلب السلطة. المؤسسات الدينية المتمركزة في دمشق، ولا سيما المسيحية منها، ترفع عن اقتناع لا عن تملّق صور «السيّد الرئيس» قرب صور البابوات والبطاركة. يردّد بعض الحلبيين أن على المحافظات الأخرى ديوناً ثوريّة لحلب ولن يغامر الحلبيون بدفع الثمن عن غيرهم مرة أخرى. أما المثقفون التقليديون ـــــ ودمشق ملعبهم الرئيسي ـــــ فطريقهم إلى التغيير تختلف عن الطريق التي انتهجها الثوار، في أعين العالم، المخربون في أعين النظام.
كل ما سبق يمثّل سنداً إضافياً لأعمدة الأمن، يتجول الهاتفون للحرية وسطهم. يثير التجوال الصباحي في شام الياسمين، الخوف. الضغط النفسي لا متناه على المعارضين في شام الإعلانات «متشبث أو متساهل، هادئ أو متوتر، أنا مع القانون» وشام الأبواق الشامتة والمحرضة: «مفتنين ـــــ مندسين ـــــ مخربين».
لكن رغم الضغط المتعدد الشكل واللون، ثمة شبان يصرون على الإصلاح، مفضلين تأجيل التغيير إلى إشعار آخر. لا ينتبه هؤلاء الشبان المقيمون في منطقة متاخمة لدمشق إلى حجم الجرأة في ما يفعلونه: فضلوا عدم التفكير، يقول أحدهم. تحفل المساحة التي تجمعهم بالتناقضات: البعض هنا لأن الفساد الاقتصادي لم يعد يطاق. آخرون هنا للانتقام من مسؤول أمني أخرس والدهم وأذل أعمامهم. يحضر الفساد الإداريّ أيضاً والتحريم السياسيّ والديموقراطية البيروقراطية. تهتز الرؤوس موافقة على تأكيد أحدهم أنه هنا لإصراره على اختيار ممثليه في مختلف المستويات، من منظف الشارع إلى النائب. ليس في الوطن، يقول أحد الشبان، ما يدفع المواطنين بغير اتجاه هذه المساحة. وبحسب الشبان، تؤكد التجارب أن «السلطة لن تصرف لنا ما تصفه بالتنازلات إلا إذا استمررنا في الضغط عليها، من هنا». ينقسم الشبان حول موقف الرئيس السوري: قبل أسابيع كان معظمهم يعتقد أن الرئيس جدي في سعيه للإصلاح لكن هناك من يضع العراقيل في وجهه. أما اليوم فقد ازدادت نسبة المقتنعين بالعكس.
يوماً تلو آخر، تكبر ثقة الشبان بأنفسهم إلى حد بلوغها قامة الأعمدة التي في الخارج. وتزداد متعتهم حين يشعرون بأن تلك الأعمدة تخافهم أكثر مما يخافونها، وتخشى استمراريتهم. يسألون بشغف عن رأي اللبنانيين وآخرين بهم. يؤكدون أن دفاع مؤيدي النظام عن أدائه يعريهم أمام الرأي العام. يعرضون بيع صورهم باعتبار صور المندسين نادرة. يُنبهون إلى تنبههم للحسابات الطائفية هنا وهناك.
سوريا بعد 17 آذار غيرها قبل ذلك التاريخ. كل ما فيها تغير. بات للمواطنين مطالب، للأفواه الصامتة أصوات، للأشخاص شخصيات وجرأة تطرق باب المستحيل. كل ما في المدينة تغيّر: يضطر النظام إلى الدفاع عن نفسه. أكثر من ستين عنصراً أمنياً يتناوبون على مراقبة مثقّف معارض تجاوز الثمانين عاماً، توقف قلمه عن النبض. ورغم أن باب المكتب كان مفتوحاً، خمسون عنصراً أمنياً اقتحموا مكتب المناضل الناصري حسن عبد العظيم لسوقه إلى جهة مجهولة. أما الشبان، فيعجز الأمن الحديديّ عن اكتشاف هوياتهم. فعلى هامش المندسين، هناك شباب يغامرون بحياتهم وبكل شيء لرفع الشواهد عن قبورهم. لا يوازي جرأتهم الاستثنائية إلا قدرتهم على التفرج بصمت على التغيير الذي يصنعونه في مجتمع لن ينجح الأمن بإعادته كما كان.
"الأخبار"

العنوان الأصلي: 7 صباحاً: ساحة العباسيّين ملعب استخبارات